موضوع: رعاية الأيتام في الإسلام السبت 10 ديسمبر - 6:41:39
قد يفقد الطفل أباه أو أمه أو يفقدهما معا فيصبح يتيما يحتاج إلى الرعاية والعطف و يحتاج إلى التربية و التعليم و يحتاج إلى الإرشاد و التوجيه ، و ربما يحتاج إلى المساعدة المادية إذا لم يخلف له أبواه من المال و المتاع ما يسد حاجته و يغنيه عن ذل السؤال و حاجة الناس
و اليتيم ليس نقيصة و لا عارا ، بل هو أمر مقدر من الله تبارك و تعالى ابتلاء للناس ، و حتى يعلم كل أحد أن الله هو المربي و أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
و فقدان الطفل أبويه لا يعني النهاية و لا يعني التعاسة ، فإذا مات الأبوان أو أحدهما فإن الله حي لا يموت ، و هو يتولى أمر هذا الطفل اليتيم و يسخر له من يقوم مقام أبويه و كم من أطفال تهيأت لهم حياة أسعد و أرغد بعد فقدان والديهم و كم من أطفال تعسوا و انحرفوا برغم أن والديهم على قيد الحياة بسبب انحراف والديهم ، أو عدم اهتمامهم بشأن أطفالهم و عدم توجيههم التوجيه الصحيح و هذا ما دفع الشاعر إلى القول :
ليس اليتيم من انتهى أبواه من ******* هم الحياة و خلفاه ذليـــــــلا إن اليتيم هو الذي تلقى لــــــه ******* أما تخلت أو أبا مشغـــــــولا
و اليتيم لا يعني إطلاقا إغلاق سبل التفوق و النجاح أمام اليتيم فكم من أيتام بلغوا من المراتب و المراكز ، و من العلم و المعرفة و من الصيت و الشهرة ما لم يبلغه أقرانهم الذين كانوا يتمتعون بحنان الأم و رعاية الأب
و حسبنا دليلا على ذلك : نبينا محمد صلى الله عليه و سلم الذي فقد أباه قبل أن ترى عيناه النور ، و فقد أمه و هو في السادسة من عمره ، و لكن يتمه و حرمانه من أبويه لم يمنعاه من أن يكون سيد الأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين
لقد تولى الله تأديبه و رعايته ، و سخر له من أقربائه من يكفله و يتولى أمره و لقد إمتن الله على نبيه بذلك فقال : " ألم يجدك يتيما فآوى (6) و وجدك ضالا فهدى (7) و وجدك عائلا فأغنى ( "
و عيسى عليه السلام خلقه الله من غير أب ، و لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون آية للعالمين و واحدا من أولي العزم من الرسل
و موسى عليه السلام عاش معظم حياته في قصر فرعون بعيدا عن أمه و أبيه ، و مع ذلك فقد أصبح كليم الله ، و أصبح قائد شعبه للتحرر من العبودية و الظلم
و يوسف عليه السلام برغم أنه فقد أمه في طفولته ، و حرم من أبيه مدة طويلة بسبب تآمر إخوته عليه فإنه بطهارته و استقامته أصبح نبيا و رسولا ، و أصبح أمينا على خزائن مصر و قادها إلى شاطيء النجاة حينما تعرضت للقحط و الجدب مدة سبع سنين
إهتمام الإسلام بشأن اليتيم و مهما نحاول أن نخفف من وطأة اليتم و مرارته بالكلمات و الأمثال فإن اليتيم يظل مهيض الجناح ، كسير القلب ، حزين النفس و يحتاج إلى كثير من العطف و الرعاية و التوجيه حتى يعوض ما فقد من حنان الأبوين و يتمتع بشخصية طبيعية متوازنة متحررة من العقد النفسية و السلبيات و إذا لم يحظ اليتيم بمثل هذه الرعاية فإنه يصبح عنصرا فاسدا و خطيرا في المجتمع ، و يلجأ إلى الشذوذ و الإنحراف .
و لذلك فقد اهتم الإسلام بأمر اليتيم ، و أولاه عناية خاصة و دعا إلى الإحسان إليه و رعايته و كفالته
و الدليل على هذا الإهتمام ذلك الحشد الكبير من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية التي تحض المسلمين على إكرام اليتيم مع توفير سبل الحياة الكريمة له
" فأما اليتيم فلا تقهر (9) و أما السائل فلا تنهر (10) و أما بنعمة ربك فحدث (11) "
" ... و أن تقوموا لليتامى بالقسط و ما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " 127 النساء
" و بالوالدين إحسانا و ذوي القربى و اليتامى و المساكين ... " 83 البقرة
" أو إطعام في يوم ذي مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) " البلد
و قد اعتبر القرآن الكريم إكرام اليتيم من صفات المؤمنين الأبرار الناجين يوم القيامة
" و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا و لا شكورا (9) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا (10) فوقاهم الله شر ذلك اليوم و لقاهم نضرة و سرورا (11) و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا (12) " الإنسان
كما عد القرآن الإساءة إلى اليتيم و القسوة عليه من صفات الكفار الأشرار " أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع اليتيم (2) و لا يحض على طعام المسكين (3) "
و ندد القرآن بالكفار لأنهم كانوا لا يحسنون إلى اليتيم " كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) و لا تحاضون على طعام المسكين (18) " الفجر
و حين شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قسوة قلبه و طلب منه علاجا لهذا الخلف السيء قال له رسول الله : " إمسح رأس اليتيم ، و أطعم المسكين "
و هكذا علمنا الرسول صلى الله عليه و سلم أن الإحسان إلى اليتيم يطهر القلب من الجفاء و الغلظة
و أخرج النسائي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة " و معنى أحرج الحق : الإثم بمن ضيع حقهما ، و احذر من ذلك تحذيرا بليغا ، و ازجر عنه زجرا أكيدا
و بين رسولنا عليه أفضل الصلاة أن أولئك الذين يمدون يد المساعدة للأرامل - اللواتي يربين اليتامى غالبا - ينالون أجرا يعدل أجر المجاهدين في سبيل الله أو أجر الذين يصومون النهار و يقومون الليل قال صلى الله عليه و سلم : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالقائم الليل الصائم النهار "
و دعا القرآن إلى مخالطة اليتامى و معاملتهم كالإخوة حتى لا يشعروا بالنقص و مرارة اليتم : " و يسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير و إن تخالطوهم فإخوانكم و الله يعلم المفسد من المصلح و لو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم " 220 البقرة
و حيثما يرد في القرآن ذكر النفقة ترد الدعوة إلى تخصيص جزء منها لليتامى : " يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين و الأقربين و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم " 215 البقرة
" و إذا حضر القسمة أولوا القربى و اليتامى و المساكين فارزقوهم منه و قولوا لهم قولا معروفا " النساء الآية 8
كفالة اليتيم و دعا ديننا الحنيف إلى كفالة اليتيم و تحمل مسؤولية تربيته و تعليمه و الإنفاق عليه و حض المسلمين على القيام بهذه المهمة النبيلة أعلن رسولنا صلى الله عليه و سلم أن كافل اليتيم جزاؤه الجنة و سينعم فيها بصحبة المصطفى الذي قال : " أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا " و أشار بالسبابة و الوسطى و فرج بينهما
و بين فقهاء الإسلام أن كفالة اليتيم فرض كفاية على أقربائه إن قام بها بعضهم سقطت عن سواهم و إن لم يقوموا بها أثموا جميعا
و إذا لم يتوفر من يكفل اليتيم فإنه يتوجب على الدولة أن تقوم بذلك ، فرسولنا صلى الله عليه و سلم قال بصفته قائدا للدولة الإسلامية : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا أو ضيعة (عيالا) فإلي و من ترك مالا فلورثته "
و حين نقرأ القرآن نجد أن الإسلام خصص للأيتام نصيبا من دخل الدولة لرعايتهم و الإنفاق عليهم ، فحينما ذكر الله عز و جل مستحقي الخمس من الغنائم جعل اليتامى فيهم : " و اعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل .... " 41 الأنفال
و حينما ذكر الله تعالى مستحقي الفيء جعل اليتامى منهم أيضا " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ... (7) " الحشر
أما الزكاة فلهم فيها نصيب مفروض و إن كانوا فقراء : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين .... (60)" التوبة
المحافظة على مال اليتيم و إذا كان لليتيم مال فإنه يتوجب على الوصي أن يحافظ عليه و ينميه و يستثمره و يجوز له أن يتاجر في مال اليتيم و يشارك فيه حسبما يرى أنه يصلح له " و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ... " الأنعام 152
و إذا كان الوصي غنيا فعليه أن يعف عن مال اليتيم و يرعى شؤونه لوجه الله دون مقابل ، و إن كان فقيرا محتاجا فقد أجاز له الشارع أن يأخذ من مال اليتيم عند الإضطرار ما يسد حاجته فقط هذا إلى لم تقم الدولة الإسلامية بكفاية هذا الوصي الفقير و لم يجد من الناس من يسد حاجته و الأفضل أن يعيد الوصي ما أخذ من مال اليتيم إذا أغناه الله أما إذا تفرغ الوصي لإدارة أعمال اليتيم و استثمار أمواله فيجوز له أن يأخذ أجرا على ذلك بلا خلاف
و إن كان غنيا و عف فهو خير له " ... و من كان غنيا فليستعفف و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف .. " النساء 6
و حذر القرآن الأوصياء من أكل مال اليتيم ، و هدد الذين يفعلون ذلك بسوء المصير " إن الذين يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا " النساء
و عد رسول الله صلى الله عليه و سلم أكل مال اليتيم من أكبر الكبائر و من السبع الموبقات حين قال : " اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله و ما هن ؟ قال : الشرك بالله ، و السحر ، و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و أكل الربا ، و أكل مال اليتيم ، و التولي يوم الزحف ، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات "
و حذر القرآن كذلك من استبدال الرديء من مال الوصي بالطيب من مال اليتيم " و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2) " النساء
كما حذر الأولياء من حرمان اليتامى من الميراث خاصة إذا كن إناثا كما كان يفعل عرب الجاهلية " للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " النساء
و دعا القرآن الأوصياء الذين يربون اليتيمات إلى التزوج بغيرهن إن خافوا الوقوع في ظلمهن و عدم إعطائهن مهور أمثالهن : " و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " النساء
و أمر القرآن الأوصياء بإعادة الأموال إلى الأيتام حينما يبلغون و يرشدون و يصبحون قادرين على تصريف شؤونهم والإعتماد على أنفسهم : " و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا ... " النساء
إستقامة الآباء و أثرها في سعادة الأبناء و إذا كان الآباء و الأوصياء يخافون على أبناءهم أن يضيعوا و يتشردوا بعد موتهم ، فما عليهم إلا أن يقسطوا في معاملة اليتامى الذين حملهم الله مسؤولية رعايتهم و تربيتهم ، ذلك أن الله تبارك و تعالى يكافيء الأب الصالح المستقيم في حياته فيرعى ذريته ، و يوفقهم و يسخر لهم من يحسن إليهم ، و يعطف عليهم قال الله تعالى : " و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله و ليقولوا قولا سديدا (9) " النساء
و قد قص الله تبارك و تعالى علينا قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح و أخبرنا في سورة الكهف أن الرجل الصالح وجد في قرية جدار يريد أن ينقض فأقامه و أصلحه دون مقابل في الوقت الذي رفض فيه أهل القرية تقديم الضيافة لموسى عليه السلام و الرجل الصالح و لما استغرب موسى عليه السلام هذا التصرف قال الرجل الصالح معللا سلوكه العجيب : " و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك و ما فعلته عن امري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " (82) الكهف
و الآية واضحة الدلالة على أن صلاح الأب كان وراء تسخير الله تبارك و تعالى للرجل الصالح كي يرمم الجدار و يحفظ كنز اليتيمين حتى ينتفعا به حين يبلغان أشدهما
و هكذا يتضح لنا أن الإسلام عني بالأيتام عناية خاصة و أمر المسلمين بإكرامهم و الإحسان إليهم و نظم العلاقة بين الأوصياء و اليتامى و وضع التشريعات الكفيلة بصيانة حقوقهم و توفير الحياة الكريمة لهم .